عن علي رضي الله عنه قال، كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة، فنكس وجعل ينكت بمخصرته ثم قال: «ما منكم من أحد إلا وقد كُتب مقعدة من النار ومقعده من الجنة»، فقالوا: يا رسول الله، أفلا نتكل على كتابنا؟ فقال: «إعملوا فكل ميسر لما خلق له» متفق عليه.
يقول ابن عثيمين رحمه الله: قال المؤلف رحمه الله تعالى في كتابه رياض الصالحين باب الموعظة عند القبر، كنا في جنازة ببقيع الغرقد، المعروف الآن بالمدينة، والغرقد نوع من الشجر معروف، وسمي بقيع الغرقد لكثرة وجود هذا النوع من الشجر به، وكان مدفن أهل المدينة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد» قالها ثلاثا، فكانوا في جنازة فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقعد وقعد الناس حوله، لأن كل الناس يحبون أن يكونوا جلساء للنبي صلى الله عليه وسلم، جلسوا حوله وفي يده مخصرة، يعني عود، فنكس رأسه وجعل ينكت بالعود، كالمهموم صلى الله عليه وسلم، ثم قال: «ما منكم من أحد إلا قد كُتب مقعده من الجنة ومقعده من النار، كل إنسان من بني آدم مكتوب مقعده من الجنة إن كان من أهل الجنة ومقعده من النار إن كان من أهل النار، وذلك قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة»، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من السعداء.
لما قال هذا الكلام قالوا: يا رسول الله، أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب؟ يعني مادام الأمر مكتوبا فما حاجة العمل، فقال: «لا تدعوا العمل، فالجنة لا تأتي إلا بعمل، والنار لا تأتي إلا بعمل، فلا يدخل النار إلا من عمل بعمل أهل النار، ولا يدخل الجنة إلا من عمل بعمل أهل الجنة». قال: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة»، ثم تلا قوله تعالى {وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى* وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى*فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:8-10]، قال: إعمل لا تتكل على الكتاب، الكتاب أمر مجهول ما ندري ما فيه، لكن من عمل خيرا فهو بشرى أنه من أهل الخير، ومن عمل سوى ذلك فهذا إنذار، قال: «إعملوا فكل ميسر لما خُلق له»، فأنت يا أخي إذا رأيت الله قد يسر لك عمل أهل السعادة فأبشر أنك من أهل السعادة، وإذا رأيت نفسك أنك تنقاد للصلاة للزكاة لفعل الخير عندك تقوى من الله عز وجل فإعلم وإستبشر أنك من أهل السعادة، لأن الله قال {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى*وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى*فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل:5-7]، وإن رأيت العكس رأيت نفسك تنشرح بفعل السيئات والعياذ بالله، وتضيق ذرعا بفعل الطاعات، فأحذر أنقذ نفسك وتب إلى الله عز وجل حتى ييسر الله لك، وإعلم أنك إذا أقبلت على الله أقبل الله عليك، حتى إذا أذنبت مهما أذنبت قال الله تعالى {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
وعلى هذا، فإذا جاء الإنسان إلى المقبرة وجلس الناس حوله فهنا يحسن أن يعظهم بما يناسب بمثل هذا الحديث، أو حديث عبد الرحمن بن مرة حين جاء الرسول صلى الله عليه وسلم وإنتهى إلى جنازة رجل من الأنصار ووجدهم يحفرون القبر ولم يتموا حفره، فجلس وجلسوا حوله كأن على رءوسهم الطير إحتراما لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإجلالا لهذا المجلس وهيبة، فجعل يحدثهم أن الإنسان إذا جاءه الموت نزلت إليه ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب، وجعل يحدثهم بحديث طويل يعظهم به، هذه هي الموعظة عند القبر، أما أن يقوم القائم عند القبر يتكلم كأنه يخطب فهذا لم يكن من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، ليس من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم أن الإنسان يقف بين الناس يتكلم كأنه يخطب، هذا ليس من السنة، السنة أن تفعل كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم فقط إذا كان الناس جلوسا ولم يدفن الميت فاجلس في إنتظار دفنه وتحدث حديث المجالس حديثا عاديا، بعض الناس أخذ من هذه الترجمة ترجمة النووي رحمه الله وقد ترجم بمثلها قبله البخاري في صحيحة باب الموعظة عند القبر، أخذ من هذا أن يكون خطيبا في الناس يخطب الناس برفع صوت ويا عباد الله وما أشبه ذلك من الكلمات التي تقال في الخطب، وهذا فهم خاطئ غير صحيح، الموعظة عند القبر تقيد بما جاء في السنة فقط لئلا تتخذ المقابر منابر، فالمواعظ هادئة يكون الإنسان فيها جالسا ويبدو عليه أثر الحزن والتفكر وما أشبه ذلك، لا أثر الشجاعة وكأنه ينذر الجيش يقول صبحكم ومساكم، لكن فضل الله يؤتيه من يشاء، فبعض الناس يفهم شيئا من النصوص فهما غير مراد بها، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم -شرح رياض الصالحين لابن عثيمين 1/1073.
المصدر: موقع دعوة الأنبياء.